حين يبكي الإنسان... هل ينكسر أم يتحرر؟
ليس كل بكاء انكسار، كما أن الصمت الطويل لا يعني الصبر دائمًا.
ففي أعماق النفس، هناك لحظات تتجاوز فيها الدموع كونها مجرد ماء، وتصبح لغة داخلية شديدة الصدق… لغة لا يجيدها إلا من مرّ بالوجع وسكت طويلاً، ثم بكى.
البكاء، في صورته الظاهرة، قد يبدو ضعفًا أو انهيارًا، لكنّه في كثير من الأحيان فعل شجاعة داخلية، لحظة مواجهة مع الذات، أو حتى شكل من أشكال التحرر من الضغط النفسي الهائل.
فالإنسان لا يبكي فقط حين يعجز، بل أحيانًا يبكي حين يتحمّل فوق طاقته بصمت طويل، ثم يحتاج إلى مخرج، إلى تفريغ، إلى تهدئة داخلية… وهذا ما يُعرف نفسيًا باسم: التنفيس الانفعالي أو Emotional Catharsis.
هناك بكاء يُرهق صاحبه، لأنه يأتي محمّلًا بالخذلان، بالشعور بالهزيمة، بالوحدة، بعدم الأمان.
وهناك بكاء يُريح، لأنه يُخرج ما تراكم من مشاعر مكبوتة، ويوفّر للنفس مساحة لترتيب ما اختل، وفرصة للعودة إلى الذات بلا أقنعة.
البكاء الذي يكسر الإنسان هو البكاء الذي يُهمَل فيه، الذي لا يجد من يحتويه، الذي يُقابل بالتجاهل أو بالتقليل، كأن يُقال له: “توقف، لا تبكِ كالأطفال“، فيخجل من ضعفه، ويكبت ما تبقّى من وجعه.
أما البكاء الذي يرفع الإنسان، فهو ذاك الذي يحدث في بيئة آمنة، أمام من يُصغي لا من يُحاكم، أو حتى في خلوة صادقة مع الله أو مع النفس… حيث لا حاجة للشرح، بل فقط للإفراغ.
الدموع في هذه اللحظة لا تُضعف، بل تُطهّر… وكأنها تغسل الداخل من التراكمات القديمة، لتترك خلفها مساحة جديدة للنهوض من جديد.
ولهذا، لا يصح اختزال البكاء في “دليل على الانكسار“، بل هو جزء من الذكاء العاطفي، ومن النضج النفسي، حين يُستخدم وسيلة للاتزان لا للهروب.
البكاء ليس وصمة، بل علامة على أننا بشر، نشعر، نتألم، ونحتاج أحيانًا أن نرتّب داخلنا بدمعة…
ثم ننهض، خفيفين، متصالحين، وأقوى.