من أنا؟ رحلة في الهوية النفسية

منذ لحظة وعيك الأولى، وأنت تطرح سؤالًا بصوت خافت أو صاخب: من أنا؟ قد يبدو هذا السؤال بسيطًا، لكنه في جوهره أعمق بكثير من الاسم، العمر، أو المهنة. إنه سؤال الهوية النفسية، ذلك الكيان الداخلي الذي لا يُرى، لكنه يوجّه اختياراتك، يحدّد علاقتك بالعالم، ويصوغ نظرتك لنفسك.

الهوية ليست شيئًا تولد به جاهزًا، بل هي نسيج تتشكّل خيوطه عبر التجارب، التربية، الجروح، النجاحات، وحتى الألم. في كل موقف تمر به، هناك قطعة تُضاف لصورتك عن ذاتك. وفي أحيان كثيرة، لا تكون هذه الصورة من اختيارك، بل نتيجة لما قاله الآخرون عنك: “أنت ضعيف”، “أنت ذكي”، “أنت فاشل”، “أنت محبوب”. كلمات علقت بك، وربما أصبحت مرآتك.

لكن الهوية الحقيقية لا تُبنى على رأي الآخرين، بل على اكتشافك الداخلي. حين تجلس مع نفسك في صمت، بعيدًا عن الأدوار الاجتماعية، وتسأل: ماذا أحب فعلاً؟ ماذا أخاف؟ متى أكون على طبيعتي؟ وما الذي يجعلني أزيف نفسي أمام الناس؟ في تلك الأسئلة يبدأ الطريق.

رحلة الهوية النفسية تتطلب شجاعة. شجاعة أن تنظر لما تحاول إخفاءه. أن تعترف بما تحاول إنكاره. أن تُصالح بين أجزاءك المتضادة: القوة والضعف، الأمل واليأس، الغضب والحب. فكلها منك، وكلها تستحق الفهم، لا النفي.

وحين تبدأ في فهم ذاتك، تصبح قراراتك أكثر وضوحًا، وحدودك أكثر صلابة، وتقديرك لذاتك لا يعود مرهونًا بإعجاب أو رفض. تصبح أنت، دون أن تعتذر. لا نسخة من أحد، ولا قناعًا لترضى به الجماعة.

فـ”من أنا؟” ليس سؤالًا للإجابة السريعة، بل سؤال للعيش. وكلما اقتربت من نفسك، كلما تحرّرت… وبدأت في أن تعيش حياتك، لا حياة فرضها الآخرون عليك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *