فن الإصغاء الحقيقي

أن تسمع، لا يعني أنك تُصغي. فبين السمع والإصغاء بحر من الفهم، والنية، والحضور. كثير من الناس يسمعون الكلمات، لكن قلّة فقط من يصغون لما وراءها: للارتباك في النبرة، للتردد في التنهيدة، للوجع الذي لا يجد مفرداته. الإصغاء الحقيقي ليس مهارة فقط، بل حضور إنساني عميق، يحتاج إلى أكثر من الأذنين… يحتاج إلى القلب.

حين نصغي بصدق، نحن لا نمنح الآخر فرصة للحديث فقط، بل نمنحه إحساسًا بأنه مرئي، مسموع، مفهوم، ولو للحظة. وهذا الإحساس، حين يُمنَح بصدق، قد يكون كافيًا ليُصلح ما عجزت عنه كلمات كثيرة. الإصغاء هو اللغة التي تقول: “أنا هنا، معك، دون حُكم، دون استعجال، دون نية في الرد السريع”. إنه تأكيد على أن الآخر يستحق المساحة، ولو كان صوته مكسورًا.

في كثير من العلاقات، الخلاف لا يحدث لأن الآخر أخطأ، بل لأن أحدهم لم يُصغِ. لم ينتبه إلى نداء خفي، إلى إشارة ألم، إلى حاجة لم تُعبّر عن نفسها بوضوح. ومن هنا، يتحول الغياب عن الإصغاء إلى فجوة تكبر كل يوم، حتى تصبح صمتًا مؤلمًا لا يمكن ملؤه بالكلام المتأخر.

فن الإصغاء يتطلب منا أن نُسكت أصواتنا الداخلية، أن نؤجل ردودنا، أن نكفّ عن محاولة إصلاح كل شيء فورًا، وأن نكون ببساطة، حاضرين. أن نترك للآخر لحظته، قصته، صوته، دون مقاطعة أو مقارنة أو تسريع. لأننا حين نصغي بصدق، لا نغيّر الآخر… بل نمنحه القوة ليغيّر نفسه.

وكم من كلمة ندمت على قولها، وكم من صرخة اختفت لو أن أحدهم فقط… أصغى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *