في عالمٍ يزداد فيه الإيقاع تسارعًا، تصبح المطالب كثيرة، والضغوط أكثر. وبين مسؤوليات العائلة، والعمل، والعلاقات الاجتماعية، واحتياجات النفس… يجد الإنسان نفسه ممزقًا بين أدوار متعددة، دون أن يمنح نفسه مساحة ليتنفس. وهنا تأتي أهمية التوازن، لا كمفهوم نظري، بل كضرورة وجودية تحميك من الانهيار البطيء.
العائلة مهمة، بلا شك. هي الحضن الأول، والامتداد الطبيعي للذات. لكنها لا يجب أن تأتي على حساب كيانك الخاص. أن تكون ابنًا أو زوجًا أو أبًا أو أختًا… لا يعني أن تلغي نفسك تمامًا في سبيل الآخر. فالعطاء الذي يُطلب منك باستمرار دون أن يُقابله وعي بحاجاتك، يتحول إلى استنزاف، ثم إلى استياء، وربما إلى نفور داخلي لا تبوح به.
وفي المقابل، السعي وراء الذات، وتحقيق الطموحات، وتخصيص وقت للراحة أو التأمل أو الهوايات، لا يعني أن تصبح أنانيًا. بل هو حق مشروع في أن تكون لك حياة لا تُعرّف فقط من خلال دورك في حياة الآخرين. لأن العطاء الحقيقي لا يأتي من الفراغ، بل من الامتلاء. ومن لا يعتني بنفسه، لن يستطيع أن يعتني بغيره طويلًا.
التوازن ليس خطًا مستقيمًا، بل حالة متغيّرة تحتاج مراجعة دائمة. أحيانًا تميل الكفة نحو العائلة، وأحيانًا نحو الذات. والذكاء العاطفي يكمن في أن تلاحظ هذا الميل، وتُعيد ضبطه دون أن تشعر بالذنب. لأن شعورك بالذنب لن يُرضي أحدًا، بل سيُتعبك ويُشوّه علاقتك مع كل من حولك.
في النهاية، التوازن لا يعني أن تُرضي الجميع دائمًا، بل أن ترضي نفسك دون أن تظلمهم. أن تعيش حياة لا تُشعرك أنك دائمًا مديون، أو دائمًا مقصّر، بل حياة فيها مساحات متبادلة من الفهم، والتقدير، والمرونة. فحين تهتم بنفسك كما تهتم بغيرك، تُصبح الحياة أعدل… وأخفّ.